فصل: ذكر قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين علي كوجك قلعة الموصل:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الكامل في التاريخ (نسخة منقحة)



.ذكر ما فعله خوارزم شاه بخراسان:

قد ذكرنا قبل قصد السلطان سنجر خوارزم، وأخذها من خوارزم شاه أتسز،وعوده إليها،وقتل ولد خوارزم شاه،وأنه هو الذي راسل الخطا وأطمعهم في بلاد الإسلام، فلما لقيهم السلطان سنجر وعاد منهزماً سار خوارزم شاه إلى خراسان، فقصد سرخس في ربيع الأول من السنة.
فلما وصل إليها لقيه الإمام أبو محمد الزيادي، وكان قد جمع بين الزهد والعلم، فأكرمه خوارزم شاه إكراماً عظيماً، ورحل من هناك إلى مرو الشاهجان، فقصده الإمام أحمد الباخرزي، وشفع في أهل مرو، وسأل ألا يتعرض لهم أحد من العسكر، فأجابه إلى ذلك، ونزل بظاهر البلد، واستدعى أبا الفضل الكرماني الفقيه وأعيان أهلها، فثار عامة مرو وقتلوا بعض أهل خوارزم شاه، وأخرجوا أصحابه من البلد، وأغلقوا أبوابه، واستعدوا للامتناع، فقاتلهم خوارزم شاه، ودخل مدينة مرو سابع عشر ربيع الأول من السنة، وقتل كثيراً من أهلها.
وممن قتل: إبراهيم المروزي الفقيه الشافعي وعلي بن محمد بن أرسلان، وكان ذا فنون كثيرة من العلم،وقتل الشريف علي بن إسحق الموسوي، وكان رأس فتنة وملقح شر، وقتل كثيراً من أعيان أهلها وعاد إلى خوارزم، واستصحب معه علماء كثيرين من أهلها منهم: أبو الفضل الكرماني وأبو منصور العبادي والقاضي الحسين بن محمد الأرسابندي وأبو محمد الخرقي الفيلسوف وغيرهم.
ثم سار في شوال من السنة إلى نيسابور، فخرج إليه جماعة من فقهائها وعلمائها وزهادها، وسألوه ألا يفعل بأهل نيسابور ما فعل بأهل مرو، فأجابهم إلى ذلك لكنه استقصى في البحث عن أموال أصحاب السلطان فأخذها، وقطع خطبة السلطان سنجر، أول ذي القعدة، وخطبوا له؛ فلما ترك الخطيب ذكر السلطان سنجر وذكر خوارزم شاه صاح الناس وثاروا، وكادت الفتنة تثور والشر يعود جديداً، وإنما منع الناس من ذلك ذوو الرأي والعقل نظراً في العاقبة، فقطعت إلى أول المحرم سنة سبع وثلاثين ثم أعيدت خطبة السلطان سنجر.
ثم سير خوارزم شاه جيشاً إلى أعمال بيهق، فأقاموا بها يقاتلون أهلها خمسة أيام، ثم سار عنها ذلك الجيش ينهبون البلاد، وعملوا بخراسان أعمالاً عظيمة، ومنع السلطان سنجر من مقاتلة أتسز خوارزم شاه خوفاً من قوة الخطا بما وراء النهر، ومجاورتهم خوارزم وغيرها من بلاد خراسان.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة ملك أتابك زنكي بن آقسنقر مدينة الحديثة، ونقل من كان بها من آل مهراش إلى الموصل، ورتب أصحابه فيها.
وفيها خطب لزنكي أيضاً بمدينة آمد، وصار صاحبها في طاعته، وكان قبل ذلك موافقاً لداود على قتال زنكي، فلما رأى قوة زنكي صار معه.
وفيها عزل مجاهد الدين بهروز عن شحنكية بغداد، ووليها قزل وهو من مماليك السلطان محمود، وان له برجرد والبصرة، فأضيف إليه شحنكية بغداد، ثم وصل السلطان مسعود إلى بغداد، فرأى من تبسط العيارين وفسادهم ما ساءه، فأعاد بهروز إلى الشحنكية، فتاب كثير نهم، ولم ينتفع الناس بذلك، لأن ولد الوزير وأخا امرأة السلطان كانا يقاسمان العيارين، فلم يقدر بهروز على منعهم.
وفيها تولى عبد الرحمن طغايرك حجبة السلطان، واستولى على المملكة وعزل الأمير تتر الطغرلي عنها، وآل أمره إلى أن يمشي في ركاب عبد الرحمن.
وفيها توفي إبراهيم السهاوي مقدم الإسماعيلية، فأحرقه ولد عباس صاحب الري في تابوته.
وفيها حج كمال الدين بن طلحة صاحب المخزن، وعاد وقد لبس ثياب الصوفية، وتخلى عن جميع ما كان فيه، وأقام في داره مرعي الجانب محروس القاعدة.
وفيها وصل السلطان إلى بغداد وكان الوزير الزينبي بدار السلطان، كما ذكرناه، فسأل السلطان أن يشفع فيه ليرده الخليفة إلى داره، فأرسل السلطان وزيره إلى دار الخلافة ومعه الوزير شرف الدين الزينبي، وشفع في أن يعود إلى داره، فأذن له في ذلك، وأعيد أخوه إلى نقابة النقباء، فلزم الوزير داره، ولم يخرج منها إلا إلى الجامع.
وفيها أغار عسكر أتابك زنكي من حلب على بلاد الفرنج، فنهبوا وأحرقوا وظفروا بسرية الفرنج، فقتلوا فيهم وأكثروا، فكان عدة القتلى سبع مائة رجل.
وفيها أفسد بنو خفاجة بالعراق، فسير السلطان مسعود سرية إليهم من العسكر، فنهبوا حلتهم، وقتلوا من ظفروا به منهم وعدوا سالمين.
وفيها سير رجال الفرنجي صاحب صقية أسطولاً إلى أطراف إفريقية، فأخوا مراكب سيرت من مصر إلى الحسن صاحب إفريقية، وغدر بالحسن، ثم راسله الحسن، وجدد الهدنة لأجل حمل الغلات من صقيلية إلى إفريقية لأن الغلاء كان فيها شديداً والموت كثيراً.
وفيها توفي أبو القاسم عبد الوهاب بن عبد الواحد الحنبلي الدمشقي، وكان عالماً صالحاً.
وفيها توفي ضياء الدين أبو سعيد بن الكفرتوثي وزير أتابك زنكي، وكان حسن السيرة في وزارته كريما رئيساً.
وفيها توفي أبو محمد بن طاووس إمام الجامع بدمشق في المحرم، وكان رجلاً صالحاً فاضلاً.
وفيها توفي أبو القاسم إسماعيل بن أحمد بن عمر بن أبي الأشعث المعروف بابن السمرقندي، ولد بدمشق سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وكان مكثراً من الحديث. ثم دخلت:

.سنة سبع وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر ملك أتابك زنكي قلعة أشب وغيرها من الهكارية:

في هذه السنة أرسل أتابك زنكي جيشاً إلى قلعة أشب، وكانت أعظم حصون الأكراد الهكارية وأمنعها، وبها أموالهم وأهلهم، فحصروها وضيقوا على من بها فملكوها، فأمر بإخرابها وبناء القلعة المعروفة بالعمادية عوضاً عنها.
وكانت العمادية حصناً عظيماً من حصونهم، فخربوه لكبره لأنه كبير جداً، وكانوا يعجزون عن حفظه، فخربت آلان أشب وعمرت العمادية، وإنما سميت العمادية نسبة إلى لقبه؛ وكان نصير الدين جقر نائبه بالموصل قد فتح أكثر القلاع الجبلية.

.ذكر حصر الفرنج طرابلس الغرب:

وفي هذه السنة سارت مراكب الفرنج من صقلية إلى طرابلس الغرب فحصروها، وسبب ذلك أن أهلها في أيام الأمير الحسن صاحب إفريقية، لم يدخلوا يداً في طاعته، ولم يزالوا مخالفين مشاقين له، قد قدموا عليهم من بني مطروح مشايخ يدبرن أمرهم، فلما رآهم ملك صقيلية كذلك جهز إليهم جيشاً في البحر، فوصلوا إليهم تاسع ذي الحجة، فنازلوا البلد وقاتلوه، وعلقوا الكلاليب في سوره ونقبوه.
فلما كان الغد وصل جماعة من العرب نجدة لأهل البلد، فقوي أهل طرابلس فيهم، فخرجوا إلى الأسطولية، فحملوا عليهم حملة منكرة، فانهزموا هزيمة فاحشة، وقتل منهم خلق كثير، ولحق الباقون بالأسطول، وتركوا الأسلحة والأثقال والدواب، فنهبها العرب وأهل البلد. ورجع الفرنج إلى صقيلية، فجددوا أسلحتهم وعادوا إلى المغرب، فوصلوا إلى جيجل، فلما رآهم أهل البلد هربوا إلى البراري والجبال، فدخلها الفرنج وسبوا من أدركوا فيها وهدموها، وأحرقوا القصر الذي بناه يحيى بن عبد العزيز بن حماد للنزهة ثم عادوا.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة خرج الأمير حسن أمير الأمراء على السلطان سنجر بخراسان.
وفيها توفي محمد بن دانشمند صاحب ملطية والثغر، واستولى على بلاده الملك مسعود بن قلج آرسلان صاحب قونية وهو من السلجوقية.
وفيها خرج من الروم عسكر كثير إلى الشام، فحصروا الفرنج بأنطاكية، فخرج صاحبها واجتمع بملك الروم وأصلح حاله معه، وعاد إلى مدينة انطاكية ومات في رمضان من هذه السنة؛ ثم إن ملك الروم بعد أن صالح صاحب أنطاكية سار إلى طرابلس فحصرها ثم سار عنها.
وفيها قبض السلطان مسعود على الأمير ترشك وهو من خواص الخليفة، ثم أطلقه السلطان حفظاً لقلب الخليفة.
وفيها كان بمصر وباء عظيم فهلك فيه أكثر أهل البلاد. ثم دخلت:

.سنة ثمان وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر صلح الشهيد والسلطان مسعود:

في هذه السنة وصل السلطان مسعود إلى بغداد على عادته في كل ستة، وجمع العساكر، وتجهز لقصد أتابك زنكي، وكان حقد عليه حقداً شديداً.وسبب ذلك أن أصحاب الأطراف الخارجين على السلطان مسعود كانوا يخرجون عليه على ما تقدم ذكره، فكان ينسب ذلك إلى أتابك زنكي ويقول إنه هو الذي سعى فيه وأشار به لعلمه أنهم كلهم كانوا يصدرون عن رايه؛ فكان أتابك زنكي لا شك يفعل ذلك لئلا يخلو السلطان فيتمكن منه ومن غيره؛ فلما تفرغ السلطان، هذه السنة، جمع العساكر ليسير إلى بلاده، فسير أتابك يستعطفه ويستميله، فأرسل إليه السلطان أبا عبد الله بن الأنباري في تقرير القواعد، فاستقرت القاعدة على مائة ألف دينار يحملها إلى السلطان ليعود عنه، فحمل عشرين ألف دينار أكثرها عروض؛ ثم تنقلت الأحوال بالسلطان إلى أن احتاج إلى مداراة أتابك وأطلق له الباقي استمالة له وحفظاً لقلبه، وكان أعظم الأسباب في قعود السلطان عنه ما يعلمه من حصانة بلاده وكثة عساكره وكثرة أمواله.
ومن جيد الرأي ما فعله الشهيد في هذه الحادثة، فإنه كان ولده الأكبر سيف الدين غازي لا يزال عند السلطان سفراً وحضراً بأمر والده، فأرسل إليه الآن يأمره بالهرب من عند السلطان إلى الموصل، فأرسل إلى نائبه بها نصير الدين جقر يقول له ليمنعه عن الدخول والوصول إليه، فهرب غازي. وبلغ الخبر والده، فأرسل إليه يأمره بالعود لى السلطان، ولم يجتمع به، وأرسل معه رسولاً إلى السلطان يقول له: إن ولدي هرب خوفاً من السلطان لما رأى تغيره علي، وقد أعدته إلى الخدمة، ولم أجتمع به، فإنه مملوكك، والبلاد لك، فحل ذلك من السلطان محلاً عظيماً.

.ذكر ملك أتابك بعض ديار بكر:

وفي هذه السنة سار أتابك زنكي لى ديار بكر ففتح منها عدة حصون، فمن ذلك: مدينة طنزة، ومدينة اسعرد، ومدينة حيزان، وحصن الروق، وحصن قطليس، وحصن ناتاسا، وحصن ذي القرنين، وغير ذلك مما لم يبلغ شهرة هذه الأماكن، وأخذ أيضاً من بلد ماردين مما هو بيد الفرنج حملين، والموزر، وتل موزن وغيرها من حصون جوسلين،ورتب أمور الجميع وجعل فيها من الأجناد من يحفظها، وقصد مدينة آمد وحاني فحصرهما، وأقام بتلك الناحية مصلحاً لما فتحه، ومحاصراً لما لم يفتحه.

.ذكر أمر العيارين ببغداد:

وفي هذه السنة زاد أمر العيارين وكثروا لأمنهم من الطلب بسبب ابن الوزير وابن قاروت أخي زوجة السلطان، لأنهما كان لهما نصيب في الذي يأخذه العيارون.
وكان النائب في شحنكية بغداد يومئذ مملوك اسمه إيلدكز، وكان صارماً، مقداماً، ظالماً، فحمله الإقدام إلى أن حضرعند السلطان، فقال له السلطان: إن السياسة قاصرة، والناس قد هلكوا، فقال: يا سلطان العالم إذا كان عقيد العيارين ولد وزيرك وأخا امرأتك فأي قدرة لي على المفسدين؟ وشرح له الحال، فقال له: الساعة تخرج وتكبس عليهما أين كانا، وتصلبهما، فإن فعلت وإلا صلبتك؛ فأخذ خاتمه وخرج فكبس على ابن الوزير فلم يجده، فأخذ من كان عنده، وكبس على ابن قاروت فأخذه وصلبه، فأصبح الناس وهرب ابن الوزير وشاع في الناس الأمر ورثي ابن قاروت مصلوباً، فهرب أكثر العيارين، وقبض على من أقام وكفى الناس شرهم،

.ذكر حصر سنجر خوارزم وصلحه مع خوارزم شاه:

قد ذكرنا سنة اثنتين وثلاثين مسير سنجر إلى خوارزم، وملكه لها، وعود أتسز خوارزم شاه إليها وأخذها، وما كان منه بخراسان بعد ذلك؛ فلما كان في هذه السنة سار السلطان سنجر إلى خوارزم، فجمع خوارزم شاه عساكره، وتحصن بالمدينة، ولم يخرج منها لقتال، لعلمه أنه لا يقوى لسنجر.
وكان القتال يجري بين الفريقين من وراء السور، فاتفق في يوم من بعض الأيام أن هجم أمير من أمراء سنجر اسمه سنقر على البلد من الجانب الشرقي ودخله، ودخل أمير آخر اسمه مثقال التاجي من الجانب الغربي، فلم يبق غير ملكه قهراً وعنوة، انصرف مثقال عن البلد حسداً لسنقر، فقوي عليه خوارزم شاه أتسز، فأخرجه من البلد، وبقي سنقر وحده، واشتد في حفظه، فلما رأى السلطان قوة البلد وامتناعه عزم على العود إلى مرو، ولم يمكنه من غير قاعدة تستقر بينهما، فاتفق أن خوارزم شاه أرسل رسلاً يبذل المال والطاعة والخدمة ويعود إلى ما كان عليه من الانقياد، فأجابه إلى ذلك واصطلحا، وعاد سنجر إلى مرو وأقام خوارزم شاه بخوارزم.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة سير أتابك زنكي عسكراً إلى مدينة عانة من أعمال الفرات فملكوها.
وفيها، في المحرم توفي أبو البركات عبد الوهاب بن المبارك بن أحمد الأنباطي، الحافظ ببغداد، ومولده سنة اثنتين وستين وأربعمائة.
وفيها توفي أبو الفتوح محمد بن الفضل بن محمد الأسفراييني الوعظ، من أهل اسفرايين من خراسان، وأقام مدة ببغداد يعظ، وسار إلى خراسان، فمات ببسطام، وكان إماماً فاضلاً صالحاً وكان بينه وبين علي الغزنوي تحاسد، فلما مات حضر الغزنوي عزاءه ببغداد وبكى وأكثر، فقال بعض أصحاب أبي الفتوح للغزنوي كلا ماً أغلظ له فيه، فلما قام الغزنوي لامه بعض تلامذته على حضور العزاء وكثرة البكاء وقال له: كنت مهاجراً لهذا الرجل، فلما مات حضرت عزاءه وأكثرت البكاء وأظهرت الحزن؟ قال: كنت أبكي على نفسي، كان يقال فلان وفلان، فمن يعدم النظير أيقن بالرحيل؛ وأنشد هذه الأبيات:
ذهب المبرد وانقضت أيامه ** وسينقضي بعد المبرد ثعلب

بيت من الآداب أصبح نصفه ** خرباً وباق نصفه فسيخرب

فتزودوا من ثعلب فبمثل ما ** شرب المبرد عن قليل يشرب

أوصيكم أن تكتبوا أنفاسه ** إن كانت الأنفاس مما يكتب

وفيها توفي الوزير شرف الدين علي بن طراد الزينبي، في رمضان، معزولاً ودفن بداره بباب الآزج، ثم نقل إلى الحربية.
وفيها توفي أبو القاسم محمود بن عمر الزمخشري النحوي المفسر، وزمخشر إحدى قرى خوارزم. ثم دخلت:

.سنة تسع وثلاثين وخمسمائة:

.ذكر فتح الرها وغيرها من بلاد الجزيرة مما كان بيد الفرنج:

في هذه السنة، سادس جمادى الأخرة، فتح أتابك عماد الدين زنكي بن آقسنقر مدينة الرها من الفرنج، وفتح غيرها من حصونهم بالجزيرة أيضاً، وكان ضررهم قد عم بلاد الجزيرة وشرهم قد استطار فيها، ووصلت غاراتهم إلى أدانيها وأقاصيها، وبلغت آمد ونصيبين ورأس عين والرقة.
وكانت مملكتهم بهذه الديار من قريب ماردين إلى الفرات مثل الرها، وسروج، والبيرة، وسن ابن عطير، وحملين، والموزر والقرادي وغير ذلك. وكانت هذه الأعمال مع غيرها مما هو غرب الفرات لجوسلين، وكان صاحب رأي الفرنج والمقدم على عساكرهم، لما هو عليه من الشجاعة والمكر.
وكان أتابك يعلم أنه متى قصد حصرها اجتمع فيها من الفرنج من يمنعها، فيتعذر عليه ملكها لا هي عليه من الحصانة، فاشتغل بديار بكر ليوهم الفرنج أنه غير متفرغ لقصد بلادهم. فلما رأوا أنه غير قادر على ترك الملوك الأرتقية وغيرهم من ملوك ديار بكر، حيث أنه محارب لهم، اطمأنوا، وفارق جوسلين الرها وعبر الفرات إلى بلاد الغربية، فجاءت عيون أتابك إليه فأخبرته فنادى العسكر بالرحيل وأن لا يتخلف عن الرها أحد من غد يومه،وجمع الأمراء عنده، وقال: قدموا الطعام؛ وقال: لا يأكل معي على مائدتي هذه إلا من يطعن غداً معي على باب الرها؛ فلم يتقدم إليه غير أمير واحد وصبي لا يعرف، لما يعلمون من إقدامه وشجاعته، وأن أحداً لا يقدر على مجاراته في الحرب، فقال الأمير لذلك الصبي: ما أنت في هذا المقام؟ فقال أتابك: دعه فوالله إني أرى وجهاً لا يتخلف عني.
وسار والعساكر معه، ووصل إلى الرها، وكان هو أول من حمل على الفرنج ومعه ذلك الصبي، وحمل فارس من خيالة الفرنج على أتابك عرضاً، فاعترضه ذلك الأمير فطعنه فقتله، وسلم الشهيد، ونازل البلد، وقاتله ثمانية وعشرين يوماً، فزحف إليه عدة دفعات، وقدم النقابين فنقبوا سور البلد، ولج في قتاله خوفاً من اجتماع الفرنج والمسير أليه واستنقاذ البلد منه، فسقطت البدنة التي نقبها النقابون وأخذ البلد عنوة وقهراً، وحصر قلعته فملكها أيضاً، ونهب الناس الأموال وسبوا الذرية وقتلوا الرجال.
فلما رأى أتابك البلد أعجبه، ورأى أن تخريب مثله لا يجوز في السياسة، فأمر فنودي في العساكر برد من أخذوه من الرجال والنساء والأطفال إلى بيوتهم، وإعادة ما غنموه من أثاثهم وأمتعتهم، فردوا الجميع عن آخره لم يفقد منهم أحد إلا الشاذ النادر الذي أخذ وفارق من أخذه العسكر،فعاد البلد إلى حاله الأول، وجعل فيه عسكراً يحفظه، وتسلم مدينة سروج وسائر الأماكن التي كانت بيد الفرنج شرقي الفرات ما عدا البيرة فإنها حصينة منيعة وعلى شاطئ الفرات، فسار إليها وحاصرها، وكانوا قد اكثروا ميرتها ورجالها، فبقي على حصارها إلى أن رحل عنها، على ما نذكره إن شاء الله تعالى.
حكي أن بعض العلماء بالأنساب والتواريخ قال: كان صاحب جزيرة صقلية قد أرسل سرية في البحر إلى طرابلس الغرب وتلك الأعمال، فنهبوا وقتلوا، وكان بصقلية إنسان من العلماء المسلمين، وهو من أهل الصلاح، وكان صاحب صقلية يكرمه ويحترمه، ويرجع إلى قوله، ويقدمه على من عنده من القسوس والرهبان؛ وكان أهل ولايته يقولون إنه مسلم بهذا السبب.
ففي بعض الأيام كان جالساً في منظرة له تشرف على البحر وإذ قد أقبل مركب لطيف، وأخبره من فيه أن عسكر دخلوا بلاد الإسلام، وغنموا وقتلوا وظفروا؛ وكان المسلم إلى جانبه وقد أغفى، فقال له الملك: يأفلان! أما تسمع ما يقولون؟ قال: لا: إنهم يخبرون بكذا وكذا. أين كان محمد عن تلك البلاد وأهلها؟ فقال له: كان قد غلب عنهم، وشهد فتح أرها، وقد فتحها المسلمون الآن؛ فضحك منه من هناك من إفرنج، فقال الملك: لا تضحكوا، فالله ما يقول إلا الحق؛ فبعد أيام وصلت الأخبار من فزنج الشام بفتحها.
وحكى لي جماعة من أهل الدين والصلاح أن إنساناً صالحاً رأى الشهيد في منامه فقال له: ما فعل الله بك؟ قال: غفر لي بفتح ألرها.

.ذكر قتل نصير الدين جقر وولاية زين الدين علي كوجك قلعة الموصل:

في هذه السنة، في ذي القعدة، قتل نظير الدين جقر نائب أتابك زنكي بالموصل والأعمال جميعها التي شرق الفرات.
وسبب قتله أن الملك ألب أرسلان المعروف بالخفاجي، ولد السلطان محمود، كان عند أتابك الشهيد، وكان يظهر للخلفاء والسلطان مسعود.أصحاب الأطراف أن هذه البلاد لهذا الملك، وأنا نائبه فيها، وكان ينتظر وفاة السلطان مسعود ليخطب له بالسلطنة، ويملك البلاد باسمه، وكان هذا الملك بالموصل، هذه السنة، ونصير الدين يقصده كل يوم ليقوم بخدمة إن عرضت له، فحسن له بعض المفسدين طلب الملك، وقال له: إن قتلت نصير الدين ملكت الموصل وغيرها من البلاد، ولا يبقى مع أتابك زنكي فارس واحد. فوقع هذا منه موقعاً حسناً وظنه صدقاً، فلما دخل نصير الدين إليه وثب عليه من عنده من أجناد أتابك ومماليكه فقتلوه، وألقوا برأسه إلى أصحابه ظناً منهم أن أصحابه يتفرقون ويخرج الملك ويملك البلد.
وكان الأمر خلاف ما ظنوه، فإن أصحابه وأصحاب أتابك الذين في خدمته لما رأوا رأسه قاتلوا من بالدار مع الملك، واجتمع معهم الخلق الكثير، وكانت دولة أتابك مملوءة بالرجال والأجلاد ذوي الرأي والتجربة، ثم دخل إليه القاضي تاج الدين يحيى الشهرزوري ولم يزل به يخدعه، وكان فيما قال له حين رآه منزعجاً: يامولانا لم تحرد من هذا الكلب؟ هذا واستاذه مماليك، والحمد لله الذي أراحنا منه ومن صاحبه على يدك، وما الذي يقعدك في هذه الدار؟ قم لتصعد القلعة وتأخذ الأموال والسلاح وتملك البلد وتجمع الجند، وليس دون البلاد بعد الموصل مانع.
فقام معه وركب القلعة، فلما قاربها أراد من بها من النقيب والأجناد القتال، فتقدم إليهم تاج الدين وقال لهم: افتحوا الباب وتسلموه، وافعلوا به ما أردتم؟ ففتحوا الباب ودخل الملك والقاضي إليها ومعهما من أعان على قتل نصير الدين، فسجنوا ونزل القاضي.
وبلغ الخبر أتابك زنكي وهو يحاصر قلعة البيرة، وقد أشرف على ملكها، فخاف أن تختلف البلاد الشرقية بعد قتل نصير الدين، ففارق البيرة وأرسل زين الدين علي بن بكتكين إلى قلعة الموصل والياً على ما كان نصير الدين يتولاه.

.ذكر عدة حوادث:

في هذه السنة قبض السلطان مسعود على وزيره البروجردي، ووزر بعده المرزبان ابن عبيد الله بن نصر الأصفهاني، وسلم إليه البروجردي، فاستخرج أمواله، ومات مقبوضاً.
وفيها كان أتابك عماد الدين زنكي يحاصر البيرة، وهي للفرنج شرق الفرات بعد ملك الرها، وهي من أمنع الحصون، وضيق عليها وقارب أن يفتحها، فجاءه خبر قتل نصير الدين نائبه بالموصل، فرحل عنها، وأرسل نائباً إلى الموصل، وأقام ينتظر الخبر، فخاف من بالبيرة من الفرنج أن يعود إليهم، وكانوا يخافونه خوفاً شديداً، فأرسلوا إلى نجم الدين صاحب ماردين وسلموها له، فملكها المسلمون.
وفيها خرج أسطول الفرنج من صقلية إلى ساحل إفريقية والغرب، ففتحوا مدينة برشك وقتلوا أهلها، وسبوا حريمهم وباعوه بصقلية على المسلمين.
وفيها توفي تاشفين بن علي بن يوسف صاحب الغرب، وكانت ولايته تزيد على أربع سنين، وولي بعده أخوه، وضعف أمر الملثمين، وقوي عبد المؤمن، وقد ذكرنا ذلك سنة أربع عشرة وخمسمائة.
وفيها، في شوال ظهر كوكب عظيم له ذنب من جانب المشرق، وبقي إلى نصف ذي القعدة، ثم غاب، ثم طلع من جانب الغرب، فقيل هو هو وقيل بل غيره.
وفيها كانت فتنة عظيمة بين الأمير هاشم بن فليتة بن القاسم العلوي الحسيني، أمير مكة، والأمير نظر الخادم أمير الحاج، فنهب أصحاب هاشم الحجاج وهم في المسجد يطوفون ويصلون، ولم يرقبوا فيهم إلاً ولا ذمة.
وفيها في ذي الحجة، توفي عبد الله بن أحمد بن محمد بن عبد الله بن حمدويه أبو المعالي المروزي بمرو، وسافر الكثير، وسمع الحديث الكثير، وبنى بمرو رباطاً، ووقف فيه كتباً كثيرة، وكان كثير الصدقة والعبادة.
وتوفي محمد بن عبد الملك بن حسن بن إبراهيم بن خيرون أبو منصور المقري، ومولده في رجب سنة أربع وخمسين وأربعمائة، وهو آخر من روى عن الجوهري بالإجازة، وتوفي في رجب.
وفي ذي الحجة منها توفي أبو منصور سعيد بن محمد بن عمر المعروف بابن الرزاز مدرس النظامية ببغداد، ومولده سنة اثنتين وأربعمائة، وتفقه على الغزالي والشامي ودفن في تربة الشيخ أبي إسحق. ثم دخلت: